Menu

قراءة في كتاب "زمن الكبار- قادة الجبهة الشعبية كما عرفتهم" للمؤلف الراحل الدكتور فايز رشيد (الحلقة 1)

عليان عليان

تمهيد:

الكتاب الذي يشتمل على 190 صفحة   هو أقرب ما يكون لأدب المذكرات في سياق محدود، رغم أن بعض الشخصيات التي تناولها (وديع حداد، غسان كنفاني) لم يرتبط المؤلف بعلاقة خاصة بهما، لكنه يخرج عن سياق أدب المذكرات عندما يفرد أكثر من عنوان للحكيم الدكتور جورج حبش ، فنراه يعمل على توثيق مكثف للفكر السياسي للجبهة الشعبية، ولدور الحكيم د. جورج حبش الفكري المتقدم، في إغناء هذا الفكر بعيداً عن أدب المذكرات.

الكتاب يعج بتفاصيل حياة المؤلف وعلاقاته المشوقة مع قادة الجبهة الشعبية، بدءاً من تعرفه وهو طالب على قادة عديدين من حركة القوميين العرب أثناء زيارتهم لأخيه القيادي في الحركة آنذاك في بلدته قلقيلية، مروراً باعتقاله من قبل سلطات الاحتلال ولقائه مع القائد الأسير من الجبهة الشعبية تيسير قبعة في سجن نابلس، وإبعاده للأردن وإكماله دراسته الثانوية "التوجيهي" في عمان ومن ثم محاولات دراسته في بغداد وبراغ التي لم تكلل بالنجاح، وسفره للاتحاد السوفييتي لدراسة الطب عام 1972، وعودته لبيروت عام 1979 بعد إكمال دراسة الطب في جامعة الصداقة بموسكو، وعمله في عيادات الجبهة، وعودته للأردن بقرار من المكتب السياسي للجبهة وحجز جواز سفره ما اضطره لفتح عيادة خاصة في مخيم شلنر لمدة عامين ونصف، خروجه إلى بيروت لظروف خارجة عن إرادته تهريباً عن طريق سورية التزاماً بقرار حزبي.

ثم خطبته للمناضلة ليلى خالد في مطلع عام 1982 من خلال جاهة مكونة من الحكيم وأبو ماهر اليماني، ومن ثم زواجه منها بعد رفض المكتب السياسي محاولتها الدخول إلى الأردن/ العدوان الصهيوني على لبنان وحصار بيروت عام 1982 واضطرار ليلى قبل ذلك للإقامة في الجبل "شملان" جراء نزيف ألم بها أثناء الحمل، وتحديها لوضعها الصحي والعودة لبيروت بعد أن أصبحت شملان تحت الاحتلال/  دوره كطبيب في الهلال الأحمر والمراكز الصحية إبان الحصار / وقيامه بتأليف كتاب أثناء الحصار بعنوان "والجراح تشهد .. مذكرات طبيب في زمن الحصار" قدم له الحكيم بمقدمة تليق به/ الخروج إلى دمشق والاستقرار لفترة فيها، الذهاب لإكمال التخصص في منسك بجمهورية بيلاروسيا السوفييتية، ومن ثم العودة للأردن بجواز سفر يمني، ثم استعادة جواز سفره الأردني بعد قيام الحكومة بتنفيذ قرار الملك حسين بالعفو العام والإفراج عن جوازات السفر المحجوزة، وقيامه بفتح عيادة الاختصاص في عمان، بعد سلسلة إضرابات اعتراضًا على عدم اعتراف وزارة الصحة بالشهادات الصادرة من جامعات الاتحاد السوفييتي وبعض الدول الاشتراكية.

وفي خضم هذه التفاصيل، تبرز العلاقات الحميمة، بين المؤلف ومعظم قادة الجبهة الشعبية والتي تكشف أدق التفاصيل في شخصياتهم بمختلف الأبعاد الفكرية والسياسية والنضالية والاجتماعية.

 وقد برر المؤلف تناوله لكل من الشهيدين القائد وديع حداد والأديب غسان كنفاني رغم عدم ارتباطه بهما بعلاقات محددة، بمبررات قد تقنع البعض ولا تقنع البعض الآخر وفيما يتعلق بالدكتور وديع حداد، برر المؤلف تضمينه بالكتاب بقوله "صحيح أن العنوان مرتبط بالقادة الذين عرفتهم، لكن ما يعزيني كذلك، أنك ككاتب تقرأ شخصية ما حتى يبدو لك أنك عايشتها عن قرب، لذلك مضيت إلى الذين عرفوا وديع حداد عن قرب لأخرج بما يلي..الخ

وبشأن تبريره إدراج القائد والأديب المبدع غسان كنفاني، في الكتاب رغم أن حدود علاقته معه زمنيا لم تتجاوز ساعة في مكتب " الهدف " بقوله: "فكرت مرارًاً في أن أدرج اسم الشهيد غسان كنفاني في هذا الكتاب أم لا! استشرت كثيرين من الرفاق والأصدقاء   أشاروا عليّ جميعهم بكتابة ما رأيت! أقول ذلك لأني لم ألتقه سوى مرةً واحدة لمدة ساعة ومن زاوية ثانية: أنه لكثرة ما كتب عنه، وأيضاً لتعدد قراءتي لأعماله بين الفترة والأخرى، أحسست بلا مبالغة أنني أعرفه من م خلال شخصيات رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ورسوماته، بحيث لا تملك إلا الإحساس بأنك أمام مبدع حقيقي فعلاً.. ولطالما تحدث بعض النقاد عن هذا الموضوع في الإجابة على السؤال: هل يمكن للقارئ معرفة شخصية الروائي والأديب من خلال أعماله؟ كثيرون أجابوا "بنعم" لأنه لا يمكن الفصل بين الأديب وأعماله.

قراءة أولية للكتاب

من خلال قراءتي الأولية للكتاب بشقيه (الفكري السياسي.. والمذكرات) يمكن تسجيل ما يلي:

البعد الفكري للدكتور جورج حبش والجبهة الشعبية

أولاً: لقد نجح الكاتب من خلال سرد علاقته الإنسانية مع قادة الجبهة الشعبية (جورج حبش، أبو علي مصطفى ، هاني الهندي، أبو ماهر اليماني، صابر محيي الدين، حمدي مطر، تيسير قبعة) في أن يضع القارئ في صورة مسلكية قيادات الجبهة الشعبية التاريخية، على الصعد الإنسانية والتنظيمية وإلى حد ما السياسية، والبصمات التي تركوها، في سياق ممتد من مؤتمر شباط 1969 وحتى استشهادهم أو رحيلهم عن هذه الدنيا، دون أن يشعر القارئ أنه أمام مسألة دعائية أو ترويجية لنهج الجبهة.

لكن الاستثناء الوحيد في هذا الكتاب الذي خرج فيه المؤلف عن السياق السردي لأدب المذكرات، هو إفراده عنوانين، عنوانين لا يمتا بصلة لأدب المذكرات وهما الفكر السياسي العام والفكر السياسي للحكيم فلسطينياً، وكانا بمثابة محاضرة مميزة وغنية تلقي الضوء على الحكيم كمفكر من طراز رفيع، بحيث لا يمكن الفصل بين الفكر السياسي للحكيم وبين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .

بعد أن توقف المؤلف أمام مسألة نظرية حول اختلاف الآراء في تعريف مقولة (الفكر) أولاً (والفكر السياسي ثانيًا) وتبيانه للقواسم المشتركة بينهما، تحدث بالتفصيل عن الجوانب الإيجابية المتعددة في الفكر السياسي للدكتور حبش، والتي أغنت نهج الجبهة الشعبية في إطار حوار معمق داخل القيادة الجماعية للجبهة وأبرز هذه الجوانب:

الموائمة بين الإستراتيجية والتكتيك/ إتقان فن الخروج من المنعطفات السياسية الحادة بصياغة موقف سياسي مرن لا يلغي الاستراتيجية المعتنقة/  الانشداد الدائم للوحدة الوطنية في مرحلة التحرر الوطني بعيداً عن المراهقة السياسية/ التحرك الديناميكي في صياغة الشعارات الاستراتيجية والشعارات السياسية وفقاً لرؤية تنسجم مع الفكر النظري من ناحية، وتحويل هذه الشعارات إلى خطوات عملية فعلية من ناحية ثانية/ 

 التماهي مع المزاج الجماهيري دون الانقياد والاحتكام له/ صياغة المواقف السياسية انطلاقاً من مبدأ الحوار الديمقراطي الداخلي الذي كرسه الحكيم في الهيئات الداخلية/ صياغة إستراتيجية تستند بشكل علمي طبقي إلى تحديد معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، مع وضوح تام للوحة التناقضات الأساسية وصياغة اللغة البسيطة في صياغة المواقف السياسية.

 وفي تقديري أن الجانب الأبرز –لذي تمكن المؤلف من إبرازه يكمن في إلقاء الضوء على مسألتين هما:

  المسألة الأولى: أن نهج الجبهة الشعبية، يكمن في تطبيقاتها  السياسية المستندة إلى فكر ماركسي لينين ي، إذ لم تخضع الواقع إلى المقولات النظرية الجامدة، كما فعلت العديد من الأحزاب الشيوعية واليسارية عمومًا، بل كان لها اجتهاداتها، حيث أخضعت النظرية لحركة هذا الواقع، مع الإبقاء التام على مضمون ذات القوانين، من خلال حركتها الدائمة، المنسجمة مع ظروف وعوامل هذا الواقع، ومن هنا أخذت الكير من الأحزاب الشيوعية والأخرى اليسارية وخاصةً العربية مآخذ كثيرة على الجبهة، واتهمتها في كثير من الأحيان بالتطرّف اليساري والماوية.

واحتاجت هذه القوى لمرحلة زمنية غير قصيرة، لتفهم جورج حبش والجبهة الشعبية على حقيقتهما.. ورغم كل الاتهامات لم تتصرف الجبهة بردود الفعل النزقة، وظلت لوحة تحالفاتها كما هي مثبتة في إستراتيجيتها السياسية والتنظيمية، بعيداً عن المزاجية وشخصنة القضايا.

المسألة الثانية: أنه رغم صعوبة التحول من الإطار القومي المجرد في تجربة حركة القوميين العرب، إلى الحزب المنتمي إلى الماركسية اللينينية، تمكن جورج حبش في صياغته للإستراتيجية السياسية والتنظيمية، من تحديد الفكر السياسي الواضح، بالنسبة لقراءة الواقع (أولاً) ولمعرفة العدو (ثانياً) وبالنسبة للأهداف الإستراتيجية للنضال ثالثاً.

ففي باب "الإستراتيجية" ورد في الإستراتيجية السياسية والتنظيمية للجبهة عام 1969 " إن ما يقرر النجاح – في الثورة- هو الرؤية الواضحة للأمور وللقوى الموضوعية التي تخوض الصراع.. وما يقرر الفشل هو العفوية والارتجال.. ومن هنا تبدو واضحة أهمية الفكر السياسي العلمي الذي يرشد الثورة ويحدد لها إستراتيجيتها ولكي يقوم الفكر السياسي بهذا الدور الثوري، لا بد أن يكون فكراً علمياً (أولاً) (وثانياً) أن يكون واضحاً بحيث يكون في متناول الجميع (وثالثاً) أن يكون متجاوزاً للعموميات، وموغلاً قدر الإمكان في الرؤية الإستراتيجية والتكتيكية للمعركة، بحيث يشكل دليلاً للمقاتلين في المواجهة مع العدو".

وفق ما تقدّم، يبرهن المؤلف أن الحكيم جورج حبش مفكر نظري وسياسي من طراز رفيع، ليس على المستوى الفلسطيني فحسب، وإنما على المستوى القومي العربي، إذ لا يرى تناقضاً في الترابط بين الخصوصية الوطنية والبعد القومي العربي، باعتبار هذه العلاقة العضوية جزءاً من تصور أممي للسمات العامة المشتركة لقضايا التحرر الوطني في الكرة الأرضية، في عملية المجابهة لأعدائها ومغتصبي إرادتها، وبالضرورة فإن ذلك لا يلغي الخصوصية في الجانبين لكل حركة تحرر وطني في ذاتها وتجربتها أولاً، وفي خصوصية العدو من ناحية أخرى.

وهذه الأبعاد- وفق الكتاب- التي تميزت بها الجبهة والحكيم -مكنت الجبهة الشعبية من إنجاز نقلة نوعية على الأصعدة السياسية والتنظيمية والمسلكية والفكرية، ما جعل الجبهة في نظر أبناء الشعب العربي الفلسطيني وفصائله الوطنية - ما اصطلح على تسميتها فلسطينياً وعربياً بـ "صمام أمان الثورة الفلسطينية".

 وهذه النقلة النوعية ما كانت لتتم بمعزل عن جورج حبش مؤسس التنظيمين "حركة القوميين العرب والجبهة، والذي لعب دوراً ريادياً مركزياً في صياغة المواقف السياسية للتنظيمين على مدى تاريخهما".

ويتوقف الكتاب أمام مسألة غاية في الأهمية، ميزت الجبهة الشعبية عن العديد من الفصائل اليسارية الفلسطينية والعربية، ألا وهي  أن الجبهة   بقيادة جورج حبش  - رغم تبنيها للفكر اليساري التقدمي، والاهتداء بالنظرية الماركسية اللينينية، فإن  ذلك لم يمنع جورج حبش ولا الجبهة الشعبية، من صياغة المواقف السياسية المستندة إلى إيمان عقيدي جذري مثل: تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، بغض النظر عن تلاؤم هذه المواقف مع الأخرى الشبيهة لأباطرة اليسار في العالم، ولدهاقنة الماركسية اللينينية أيضاً... وبالتالي انفردت الجبهة الشعبية في تجربة خاصة بها عن اليسار بمختلف أسمائه في الساحة الفلسطينية، بعيداً عن انتهاج  الموقف المسبق الصنع، ورضى هذه القوى أو غضب الأخرى، وذلك في خصوصية اقتضاها الرد على خصوصية العدو واستثنائيته، وخطره الكامن ليس على الصعيد الفلسطيني فحسب، وإنما على الصعيد العربي والدولي، ولذلك كان قرار الأمم المتحدة حول الصهيونية باعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

الكتاب يبرز التطور في مواقف الجبهة في سياق جدلي

ويسجل للمؤلف هنا أنه قدم أمثلة عن تطور موقف للجبهة وللحكيم في سياق جدلي منها أبرزها:

1-أن الجبهة وقفت أمام الشعار الاستراتيجي لحركة التحرر الوطني الفلسطينية وأكدت " أن إقامة الدولة الديمقراطية الشعبية في فلسطين التي يعيش فيها العرب واليهود كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، كجزْء لا يتجزأ من الوجود العربي الديمقراطي التقدمي المتعايش بسلام مع كل قوى التقدم في العالم". وهي بذلك أجرت تعديلاً على الهدف الذي حددته في المؤتمر الثاني في شباط 1969 "والذي رأى أن الهدف في "إنشاء دولة ديمقراطية في فلسطين".

وهي بهذا التعديل ، كما بين المؤلف عبرت عن المضمون الحقيقي للهدف لأنه (أولاً) يعكس المضمون الاقتصادي الاجتماعي للأهداف والمهام التي ستتصدى لإنجازها حركة التحرر الوطني الفلسطيني في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية- مرحلة  ما بعد إنجاز الاستقلال السياسي -، من حيث هي أهداف وطنية وديمقراطية، تترابط بشكل وثيق مع مهام وأهداف الثورة الاشتراكية (وثانياً) لأنه يعكس أهمية وضرورة قيادة الطبقة العاملة  للتحالف الطبقي الديمقراطي في إدارة الدولة والمجتمع، نحو حل وإنجاز كامل لأهداف المرحلة الوطنية والديمقراطية بأفق اشتراكي (وثالثاً) لأنه يعكس أهمية أوثق الصلات التحالفية  مع قوى السلام والتحرر والاشتراكية على الصعيد الأممي.

2-إجراء الجبهة الشعبية بقيادة الحكيم تعديلات في سياق تحديد أطراف معسكر العدو المعادي للثورة، وتم في التعديل الجديد تحميل المسؤولية للأحزاب والتنظيمات والقوى السياسية، التي قادت وتقود نضالات الجماهير الفلسطينية وأن القيادات السياسية التقليدية – وليس شعبنا الفلسطيني- هي التي عجزت عن بلورة أحاسيس الجماهير الفلسطينية، وتحويلها إلى فكر سياسي واضح يحدد بدقة وبشكل حاسم معسكر أعداء الثورة.

3-إجراء تعديل على التعريف للحركة الصهيونية السابق في وثائق الجبهة " حركة دينية عنصرية.. الخ إلى " اعتبارها حركة سياسية مغرقة في رجعيتها وفاشيتها وعنصريتها تعبر عن المصالح والأهداف الطبقًية للبرجوازية اليهودية التي ترتبط عضويا بمصالح ومخططات وأهداف الإمبريالية العالمية.

4-في التعديلات تمت الإشارة إلى الخطأ السابق، في استبعاد الفلاحين من البرجوازية الصغيرة، كطبقة وفقا للتعريف اللينيني للطبقات في المجتمعات الرأسمالية، والتي يقول عنها لينين "الطبقات الاجتماعية التي نعرفها في المجتمع الرأسمالي وشبه الرأسمالي هي ثلاث: البرجوازية والبرجوازية الصغيرة- والتي يمثل الفلاحون عنصرها الرئيسي- والبروليتاريا.